الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب الدعاء قبل السلام) أي بعد التشهد، هذا الذي يتبادر من ترتيبه، لكن قوله في الحديث " كان يدعو في الصلاة " لا تقييد فيه بما بعد التشهد. وأجاب الكرماني فقال: من حيث أن لكل مقام ذكرا مخصوصا فتعين أن يكون محله بعد الفراغ من الكل ا هـ. وفيه نظر، لأن التعيين الذي ادعاه لا يختص بهذا المحل لورود الأمر بالدعاء في السجود، فكما أن للسجود ذكرا مخصوصا ومع ذلك أمر فيه بالدعاء فكذلك الجلوس في آخر الصلاة له ذكر مخصوص وأمر فيه مع ذلك بالدعاء إذا فرغ منه. وأيضا فإن هذا هو ترتيب البخاري، لكنه مطالب بدليل اختصاص هذا المحل بهذا الذكر، ولو قطع النظر عن ترتيبه لم يكن بين الترجمة والحديث منافاة، لأن قبل السلام يصدق على جميع الأركان، وبذلك جزم الزين بن المنير وأشار إليه النووي، وسأذكر كلامه آخر الباب. وقال ابن دقيق العيد في الكلام على حديث أبي بكر - وهو ثاني حديثي الباب - هذا يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعين محله، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين - السجود أو التشهد - لأنهما أمر فيهما بالدعاء. قلت: والذي يظهر لي أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض الطرق من تعيينه بهذا المحل، فقد وقع في بعض طرق حديث ابن مسعود بعد ذكر التشهد " ثم ليتخير من الدعاء ما شاء " وسيأتي البحث فيه. ثم قد أخرج ابن خزيمة من رواية ابن جريج أخبرني عبد الله بن طاوس عن أبيه أنه كان يقول بعد التشهد كلمات يعظمهن جدا. قلت في المثنى كليها؟ قال بل في التشهد الأخير، قلت: ما هي؟ قال " أعوذ بالله من عذاب القبر " الحديث. قال ابن جريج: أخبرنيه عن أبيه عن عائشة مرفوعا. ولمسلم من طريق محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة مرفوعا " إذا تشهد أحدكم فليقل " فذكر نحوه. هذه رواية وكيع عن الأوزاعي عنه، وأخرجه أيضا من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بلفظ " إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير " فذكره، وصرح بالتحديث في جميع الإسناد، فهذا فيه تعيين هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهد، فيكون سابقا على غيره من الأدعية. وما ورد الإذن فيه أن المصلى يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ فَقَالَ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ الشرح: قوله: (من عذاب القبر) فيه رد على من أنكره، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. قوله: (من فتنة المسيح الدجال) قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار، قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره ا ه. وتطلق على القتل والإحراق والنميمة وغير ذلك. والمسيح بفتح الميم وتخفيف المهملة المكسورة وآخره حاء مهملة يطلق على الدجال وعلى عيسى بن مريم عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد به. وقال أبو داود في السنن: المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى، والمشهور الأول. وأما ما نقل الفربري في رواية المستملي وحده عنه عن خلف بن عامر وهو الهمداني أحد الحفاظ أن المسيح بالتشديد والتخفيف واحد يقال للدجال ويقال لعيسى وأنه لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين فهو رأى ثالث. وقال الجوهري: من قاله بالتخفيف فلمسحه الأرض، ومن قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين. وحكى بعضهم أنه قال بالخاء المعجمة في الدجال ونسب قائله إلى التصحيف. واختلف في تلقيب الدجال بذلك، فقيل: لأنه ممسوح العين، وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحا لا عين فيه ولا حاجب، وقيل لأنه يمسح الأرض إذا خرج. وأما عيسى فقيل: سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل لأن زكريا مسحه، وقيل لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وقيل لأنه كأن يمسح الأرض بسياحته، وقيل لأن رجله كانت لا أخمص لها، وقيل للبسه المسوح، وقيل هو بالعبرانية ماشيخا فعرب المسيح، وقيل المسيح الصديق كما سيأتي في التفسير ذكر قائله إن شاء الله تعالى. وذكر شيخنا الشيخ مجد الدين الشيرازي صاحب القاموس أنه جمع في سبب تسمية عيسى بذلك خمسين قولا أوردها في شرح المشارق. قوله: (فتنة المحيا وفتنة الممات) قال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت. وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقد صح يعني في حديث أسماء الآتي في الجنائز " إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة الدجال " ولا يكون مع هذا الوجه متكررا مع قوله " عذاب القبر " لأن العذاب مرتب عن الفتنة والسبب غير المسبب. وقيل أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر، وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الحيرة، وهذا من العام بعد الخاص، لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن سفيان الثوري أن الميت إذا سئل " من ربك " تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه إني أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبت له حين يسأل. ثم أخرج بسند جيد إلى عمرو بن مرة " كانوا يستحبون إذا وضع الميت في القبر أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان". قوله: (والمغرم) أي الدين، يقال غرم بكسر الراء أي أدان. قيل والمراد به ما يستدان فيما لا يجوز وفيما يجوز ثم يعجز عن أدائه، ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك. وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين. وقال القرطبي: المغرم الغرم، وقد نبه في الحديث على الضرر اللاحق من المغرم، والله أعلم. قوله: (فقال له قائل) لم أقف على اسمه، ثم وجدت في رواية للنسائي من طريق معمر عن الزهري أن السائل عن ذلك عائشة ولفظها " فقلت: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ الخ". قوله: (ما أكثر) بفتح الراء على التعجب. و قوله: (إذا غرم) بكسر الراء. قوله: (ووعد فأخلف) كذا للأكثر. وفي رواية الحموي " وإذا وعد أخلف " والمراد أن ذلك شأن من يستدين غالبا. قوله: (وعن الزهري) الظاهر أنه معطوف على الإسناد المذكور، فكأن الزهري حدث به مطولا ومختصرا، لكن لم أره في شيء من المسانيد والمستخرجات من طريق شعيب عنه إلا مطولا ورأيته باللفظ المختصر المذكور سندا ومتنا عند المصنف في كتاب الفتن من طريق صالح بن كيسان عن الزهري، وكذلك أخرجه مسلم من طريق صالح. وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذكر مع أنه معصوم مغفور له ما تقدم وما تأخر، وأجيب بأجوبة، أحدها: أنه قصد التعليم لأمته، ثانيها: أن المراد السؤال منه لأمته فيكون المعنى هنا أعوذ بك لأمتي، ثالثها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية وإلزام خوف الله وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقيق الإجابة لأن ذلك يحصل الحسنات ويرفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقيق عدم إدراكه، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم " إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه " الحديث، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الشرح: قوله: (عن أبي الخير) هو اليزني بالتحتانية والزاي المفتوحتين ثم نون، والإسناد كله سوى طرفيه مصريون، وفيه تابعي عن تابعي وهو يزيد عن أبي الخير، وصحابي عن صحابي وهو عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، هذه رواية الليث عن يزيد ومقتضاها أن الحديث من مسند الصديق رضي الله عنه، وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسي عن الليث فإن لفظه عن أبي بكر قال " قلت يا رسول الله " أخرجه البراز من طريقه. وخالف عمرو بن الحارث الليث فجعله من مسند عبد الله ابن عمرو ولفظه " عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم " هكذا رواه ابن وهب عن عمرو، ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة الحديث. وقد أخرج المصنف طريق عمرو معلقة في الدعوات وموصولة في التوحيد، وكذلك أخرج مسلم الطريقين طريق الليث وطريق ابن وهب وزاد مع عمرو بن الحارث رجلا مبهما، وبين ابن خزيمة في روايته أنه ابن لهيعة. قوله: (ظلمت نفسي) أي بملابسة ما يستوجب العقوبة أو ينقص الحظ. وفيه أن الإنسان لا يعري عن تقصير ولو كان صديقا: قوله: (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فيه إقرار بالوحدانية واستجلاب للمغفرة، وهو كقوله تعالى قوله: (مغفرة من عندك) قال الطيبي: دل التنكير على أن المطلوب غفران عظيم لا يدرك كهنه، ووصفه بكونه من عنده سبحانه وتعالى مريدا لذلك العظم لأن الذي يكون من عند الله لا يحيط به وصف. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين، أحدهما الإشارة إلى التوحيد المذكور كأنه قال لا يفعل هذا إلا أنت فافعله لي أنت، والثاني - وهو أحسن - أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره. انتهى. وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى هب لي المغفرة تفضلا وإن لم أكن لها أهلا بعملي. قوله: (إنك أنت الغفور الرحيم) هما صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما تقدم، فالغفور مقابل لقوله اغفر لي، والرحيم مقابل لقوله ارحمني، وهي مقابلة مرتبة. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا استحباب طلب التعليم من العالم، خصوصا في الدعوات المطلوب فها جوامع الكلم. ولم يصرح في الحديث بتعيين محله. وقد تقدم كلام ابن دقيق العيد في ذلك في أوائل الباب الذي قبله، قال: ولعله ترجح كونه فيما بعد التشهد لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل. ونازعه الفاكهاني فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين، أي السجود والتشهد. وقال النووي: استدلال البخاري صحيح، لأن قوله " في صلاتي " يعم جميعها، ومن مظانه هذا الموطن. قلت: ويحتمل أن يكون سؤال أبي بكر عن ذلك كان عند قوله لما علمهم التشهد " ثم ليتخير من الدعاء ما شاء " ومن ثم أعقب المصنف الترجمة بذلك. *3* الشرح: قوله: (باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد، وليس بواجب) يشير إلى أن الدعاء السابق في الباب الذي قبله لا يجب وإن كان قد ورد بصيغة الأمر كما أشرت إليه، لقوله في آخر حديث التشهد " ثم ليتخير " والمنفي وجوبه يحتمل أن يكون الدعاء الذي لا يجب دعاء مخصوص، وهذا واضح مطابق للحديث، وإن كان التخيير مأمورا به. ويحتمل أن يكون المنفي التخيير، ويحمل الأمر الوارد به على الندب، ويحتاج إلى دليل. قال ابن رشيد: ليس التخيير في آحاد الشيء بدال على عدم وجوبه، فقد يكون أصل الشيء واجبا ويقع التخيير في وصفه. وقال الزين بن المنير: قوله " ثم ليتخير " وإن كان بصيغة الأمر لكنا كثيرا ما ترد للندب، وادعى بعضهم الإجماع على عدم الوجوب، وفيه نظر، فقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس ما يدل على أنه يرى وجوب الاستعاذة المأمور بها في حديث أبي هريرة المذكور في الباب قبله، وذلك أنه سأل ابنه: هل قالها بعد التشهد؟ فقال: لا، فأمره أن يعيد الصلاة. وبه قال بعض أهل الظاهر. وأفرط ابن حزم فقال بوجوبها في التشهد الأول أيضا. وقال ابن المنذر: لولا حديث ابن مسعود " ثم ليتخير من الدعاء " لقلت بوجوبها، وقد قال الشافعي أيضا بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، وادعى أبو الطيب الطبري من أتباعه والطحاوي وآخرون أنه لم يسبق إلى ذلك، واستدلوا على ندبيتها بحديث الباب مع دعوى الإجماع، وفيه نظر لأنه ورد عن أبي جعفر الباقر والشعبي وغيرهما ما يدل على القول بالوجوب. وأعجب من ذلك أنه صح عن ابن مسعود راوي حديث الباب ما يقتضيه، فعند سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى أبي الأحوص قال: قال عبد الله يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه بعد. وقد وافق الشافعي أحمد في إحدى الروايتين عنه وبعض أصحاب مالك. وقال إسحق بن راهويه أيضا بالوجوب لكن قال: إن تركها ناسيا رجوت أن يجزئه، فقيل إن له في المسألة قولين كأحمد، وقيل بل كان يراها واجبة لا شرطا. ومنهم من قيد تفرد الشافعي بكونه عينها بعد التشهد لا قبله ولا فيه حتى لو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء التشهد مثلا لم يجزئ عنده. وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ الْأَعْمَشِ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو الشرح: قوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) زاد أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه " فيدعو به " ونحوه النسائي من وجه آخر بلفظ " فليدع به " ولإسحاق عن عيسى عن الأعمش " ثم ليتخير من الدعاء ما أحب " وفي رواية منصور عن أبي وائل عند المصنف في الدعوات " ثم ليتخير من الثناء ما شاء " ونحوه لمسلم بلفظ " من المسألة " واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما اختار المصلي من أمر الدنيا والآخرة، قال ابن بطال: خالف في ذلك النخعي وطاوس وأبو حنيفة فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن، كذا أطلق هو ومن تبعه عن أبي حنيفة، والمعروف في كتب الحنفية أنه لا يدعو في الصلاة إلا بما جاء في القرآن أو ثبت في الحديث، وعبارة بعضهم: ما كان مأثورا، قال قائلهم: والمأثور أعم من أن يكون مرفوعا أو غير مرفوع، لكن ظاهر حديث الباب يرد عليهم، وكلا يرد على قول ابن سيرين: لا يدعو في الصلاة إلا بأمر الآخرة، واستثنى بعض الشافعية ما يقبح في أمر الدنيا، فإن أراد الفاحش من اللفظ فمحتمل، وإلا فلا شك أن الدعاء بالأمور المحرمة مطلقا لا يجوز، وقد ورد فيما يقال بعد التشهد أخبار من أحسنها ما رواه سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عمير بن سعد قال " كان عبد الله - يعني ابن مسعود - يعلمنا التشهد في الصلاة ثم يقول: إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون. ربنا آتنا في الدنيا حسنة " الآية. قال ويقول: لم يدع نبي ولا صالح بشيء إلا دخل في هذا الدعاء. وهذا من المأثور غير مرفوع، وليس هو مما ورد في القرآن. وقد استدل البيهقي بالحديث المتفق عليه " ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به " وبحديث أبي هريرة رفعه " إذا فرغ أحدكم من التشهد فليتعوذ بالله " الحديث. وفي آخره " ثم ليدعو لنفسه بما بدا له " هكذا أخرجه البيهقي. وأصل الحديث في مسلم. وهذه الزيادة صحيحة لأنها من الطريق التي أخرجها مسلم. *3* قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَأَيْتُ الْحُمَيْدِيَّ يَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَمْسَحَ الْجَبْهَةَ فِي الصَّلَاةِ الشرح: قوله: (باب من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى) قال الزين بن المنير ما حاصله: ذكر البخاري المستدل ودليله، وكل الأمر فيه لنظر المجتهد هل يوافق الحميدي أو يخالفه، وإنما فعل ذلك لما يتطرق إلى الدليل من الاحتمالات، لأن بقاء أثر الطين لا يستلزم نفي مسح الجبهة، إذ يجوز أن يكون مسحها وبقي الأثر بعد المسح، ويحتمل أن يكون ترك المسح ناسيا أو تركه عامدا لتصديق رؤياه، أو لكونه لم يشعر ببقاء أثر الطين في جبهته، أو لبيان الجواز، أو لأن ترك المسح أولى لأن المسح عمل وإن كان قليلا، وإذا تطرقت هذه الاحتمالات لم ينهض الاستدلال، لا سيما وهو فعل من الجبليات لا من القرب. قوله: (قال أبو عبد الله) هو المصنف، والحميدي هو شيخه المشهور أحد تلامذة الشافعي. قوله: (يحتج بهذا) فيه إشارة إلى أنه يوافقه على ذلك، ومن ثم لم يتعقبه، وقد تقدم ما فيه وأنه إن احتج به على المنع جملة لم يسلم من الاعتراض وأن الترك أولى. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ الشرح: قوله: (حدثنا هشام) هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: (حتى رأيت أثر الطين) هو محمول على أثر خفيف لا يمنع مباشرة الجبهة للسجود، وسيأتي بقية الكلام على فوائده في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى. الشرح: قوله: (باب التسليم) أي من الصلاة، قيل لم يذكر المصنف حكمه لتعارض الأدلة عنده في الوجوب وعدمه، ويمكن أن يؤخذ الوجوب من حديث الباب حيث جاء فيه " كان إذا سلم " لأنه يشعر بتحقق مواظبته على ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحديث " تحليلها التسليم " أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح. أما حديث " إذا أحدث وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته " فقد ضعفه الحفاظ، وسيأتي الكلام على بقيه فوائده بعد أربعة أبواب. (تنبيه) : لم يذكر عدد التسليم، وقد أخرج مسلم من حديث ابن مسعود ومن حديث سعد بن أبي وقاص التسليمتين وذكر العقيلي وابن عبد الله أن حديث التسليمة الواحدة معلول، وبسط ابن عبد البر الكلام على ذلك. *3* وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْتَحِبُّ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَنْ يُسَلِّمَ مَنْ خَلْفَهُ الشرح: قوله: (باب يسلم) أي المأموم (حين يسلم الإمام) قال الزين بن المنير: ترجم بلفظ الحديث، وهو محتمل لأن يكون المراد أنه يبتدئ السلام بعد ابتداء الإمام له، فيشرع المأموم فيه قبل أن يتمه الإمام، ويحتمل أن يكون المراد أن المأموم يبتدئ السلام إذا أتمه الإمام، قال: فلما كان محتملا للأمرين وكل النظر فيه إلى المجتهد. انتهى ويحتمل أن يكون أراد أن الثاني ليس بشرط، لأن اللفظ يحتمل الصورتين، فأيهما فعل المأموم جاز، وكأنه أشار إلى أنه يندب أن لا يتأخر المأموم في سلامه بعد الإمام متشاغلا بدعاء وغيره، ويدل على ذلك ما ذكره عن ابن عمر، والأثر المذكور لم أقف على من وصله، لكن عند ابن أبي شيبة عن ابن عمر ما يعطى معناه. الحديث: حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ الشرح: قد تقدم الكلام على حديث عتبان مطولا في أوائل الصلاة، وأورده هنا مختصرا جدا. وفي الباب الذي يليه أتم منه، وكلاهما من طريق عبد الله وهو ابن المبارك. *3* الشرح: قوله: (باب من لم يرد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة) أورد فيه حديث عتبان كما ذكرنا، واعتماده فيه على قوله " ثم سلم وسلمنا حين سلم " فإن ظاهره أنهم سلموا نظير سلامه، وسلامه إما واحدة وهي التي يتحلل بها من الصلاة وإما هي وأخرى معها، فيحتاج من استحب تسليمة ثالثة على الإمام بين التسليمتين - كما تقوله المالكية - إلى دليل خاص، وإلى رد ذلك أشار البخاري. وقال ابن بطال: أظنه قصد الرد على من يوجب التسليمة الثانية، وقد نقله الطحاوي عن الحسن بن الحسن. انتهى. وفي هذا الظن بعد، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ وَزَعَمَ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَ فِي دَارِهِمْ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَ أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ الشرح: قوله: (وزعم) الزعم يطلق على القول المحقق وعلى القول المشكوك فيه وعلى الكذب، وينزل في كل موضع على ما يليق به، والظاهر أن المراد به هنا الأول، لأن محمود بن الربيع موثق عند الزهري، فقوله عنده مقبول. قوله: (من دلو كانت في دارهم) قال الكرماني: كانت صفة لموصوف محذوف أي من بئر كانت في دارهم، ولفظ الدلو يدل عليه. وقال غيره: بل الدلو يذكر ويؤنث فلا يحتاج إلى تقدير. قوله: (سمعت عتبان بن مالك الأنصاري ثم أحد بني سالم) بنصب أحد عطفا على قوله الأنصاري، وهو بمعنى قوله الأنصاري ثم السالمي، هذا الذي يكاد من له أدنى ممارسة بمعرفة الرجال أن يقطع به. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون عطفا على عتبان يعني سمعت عتبان ثم سمعت أحد بني سالم أيضا، قال: والمراد به فيما يظهر الحصين بن محمد، فكأن محمودا سمع من عتبان، ومن الحصين. قال: وهو بخلاف ما تقدم في " باب المساجد في البيوت " أن الزهري هو الذي سمع محمودا والحصين، قال: ولا منافاة بينهما لاحتمال أن الزهري ومحمودا سمعا جميعا من الحصين، قال: ولو روى برفع أحد بأن يكون عطفا على محمود لساغ ووافق الرواية الأولى، يعني فيصير التقدير: قال الزهري أخبرني محمود بن الربيع ثم أخبرني أحد بني سالم أي الحصين. انتهى. وكأن الحامل له على ذلك كله قول الزهري في الرواية السابقة " ثم سألت الحصين بن محمد الأنصاري وهو أحد بني سالم " فكأنه ظن أن المراد بقوله ثم أحد بني سالم هنا هو المراد بقوله أحد بني سالم هناك، ولا حاجة لذلك، فإن عتبان من بني سالم أيضا، وهو عتبان بن مالك ابن عمرو بن العجلان بن زياد بن غنم بن سالم بن عوف، وقيل في نسبه غير ذلك مع الاتفاق على أنه من بني سالم، والأصل عدم التقدير في إدخال أخبرني بين ثم وأحد، وعلى الاحتمال الذي ذكره إشكال آخر لأنه يلزم منه أن يكون الحصين بن محمد هو صاحب القصة المذكورة، أو أنها تعددت له ولعتبان، وليس كذلك فإن الحصين المذكور لا صحبة له، بل لم أر من ذكر أباه في الصحابة. وقد ذكر ابن أبي حاتم الحصين ابن محمد في الجرح والتعديل ولم يذكر له شيخنا غير عتبان بن مالك، ونقل عن أبيه أن روايته عنه مرسلة، ولم يذكر أحد ممن صنف في الرجال لمحمود بن الربيع رواية عن الحصين، والله أعلم. قوله: (فلوددت) أي فوالله لوددت. قوله: (اشتد النهار) أي ارتفعت الشمس. قوله: (فأشار إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه) قال الكرماني فاعل أشار النبي صلى الله عليه وسلم ومن للتبعيض، قال: ولا ينافي ما تقدم أنه قال فأشرت له إلى المكان، لا مكان وقوع الإشارتين منه ومن النبي صلى الله عليه وسلم إما معا وإما سابقا ولاحقا. قلت: والذي يظهر أن فاعل أشار هو عتبان، لكن فيه التفات، إذ ظاهر السياق أن يقول: فأشرت الخ، وبهذا تتوافق الروايات، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب الذكر بعد الصلاة) أورد فيه أولا حديث ابن عباس من وجهين أحدهما أتم من الآخر، وأغرب المزي فجعلهما حديثين، والذي يظهر أنهما حديث واحد كما سنبينه. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ الشرح: قوله: (أخبرني عمرو) هو ابن دينار المكي. قوله: (كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه أن مثل هذا عند البخاري يحكم له بالرفع خلافا لمن شذ ومنع ذلك، وقد وافقه مسلم والجمهور على ذلك، وفيه دليل على جواز الجهر صلى الله عليه وسلم بالذكر عقب الصلاة قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة ما كان يفعله بعض الأمراء من التكبير عقب الصلاة، وتعقبه ابن بطال بأنه لم يقف على ذلك عن أحد من السلف إلا ما حكاه ابن حبيب في " الواضحة " أنهم كانوا يستحبون التكبير في العساكر عقب الصبح والعشاء تكبيرا عاليا ثلاثا، قال: وهو قديم من شأن الناس. قال ابن بطال: وفي " العتبية " عن مالك أن ذلك محدث. قال: وفي السياق إشعار بأن الصحابة لم يكونوا يرفعون أصواتهم بالذكر في الوقت الذي قال فيه ابن عباس ما قال. قلت: في التقييد بالصحابة نظر، بل لم يكن حينئذ من الصحابة إلا القليل. وقال النووي: حمل الشافعي هذا الحديث على أنهم جهروا به وقتا يسيرا لأجل تعليم صفة الذكر، لا أنهم داوموا على الجهر به، والمختار أن الإمام والمأموم يخفيان الذكر إلا إن احتيج إلى التعليم. قوله: (وقال ابن عباس) هو موصول بالإسناد المبدأ به صلى الله عليه وسلم كما في رواية مسلم عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق به. قوله: (كنت أعلم) فيه إطلاق العلم على الأمر المستند إلى الظن الغالب. قوله: (إذا انصرفوا) أي أعلم انصرافهم بذلك أي برفع الصوت إذا سمعته أي الذكر، والمعنى كنت أعلم بسماع الذكر انصرافهم. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ قَالَ عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ كَانَ أَبُو مَعْبَدٍ أَصْدَقَ مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلِيٌّ وَاسْمُهُ نَافِذٌ الشرح: قوله: (حدثني علي) هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار. قوله: (كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير) وقع في رواية الحميدي عن سفيان بصيغة الحصر، ولفظه " ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير " وكذا أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان، واختلف في كون ابن عباس قال ذلك، فقال عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة لأنه كان صغيرا ممن لا يواظب على ذلك ولا يلزم به، فكان يعرف انقضاء الصلاة بما ذكر. وقال غيره: يحتمل أن يكون حاضرا في أواخر الصفوف فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرفه بالتكبير. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ منه أنه لم يكن هناك مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد. قوله: (بالتكبير) هو أخص من رواية ابن جريج التي قبلها، لأن الذكر أعم من التكبير، ويحتمل أن تكون هذه مفسرة لذلك فكان المراد أن رفع الصوت بالذكر أي بالتكبير، وكأنهم كانوا يبدءون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح والتحميد، وسيأتي الكلام على ذلك في الحديث الذي بعده. قوله: (قال علي) هو ابن المديني المذكور وثبتت هذه الزيادة في رواية المستملي والكشميهني، وزاد مسلم في روايته المذكورة " قال عمرو - يعني ابن دينار - وذكرت ذلك لأبي معبد بعد فأنكره وقال لم أحدثك بهذا. قال عمرو: قد أخبرتنيه قبل ذلك " قال الشافعي بعد أن رواه عن سفيان كأنه نسيه بعد أن حدثه به. انتهى. وهذا يدل على أن مسلما كان يرى صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلا، ولأهل الحديث فيه تفصيل: قالوا إما أن يجزم برده أو لا، وإذا جزم فإما أن يصرح بتكذيب الراوي عنه أو لا فإن لم يجزم بالرد كأن قال لا أذكره فهو متفق عندهم على قبوله صلى الله عليه وسلم لأن الفرع ثقة والأصل لم يطعن فيه، وإن جزم وصرح بالتكذيب فهو متفق عندهم على رده لأن جزم الفرع بكون الأصل حدثه يستلزم تكذيب الأصل في دعواه أنه كذب عليه، وليس قبول قول أحدهما بأولى من الآخر، وإن جزم بالرد ولم يصرح بالتكذيب فالراجح عندهم قبوله. وأما الفقهاء فاختلفوا: فذهب الجمهور في هذه الصورة إلى القبول، وعن بعض الحنفية ورواية عن أحمد لا يقبل قياسا على الشاهد، وللإمام فخر الدين في هذه المسألة تفصيل نحو ما تقدم وزاد. فإن كان الفرع مترددا في سماعه والأصل جازما بعدمه سقط لوجود التعارض، ومحصل كلامه آنفا أنهما إن تساويا فالرد، وإن رجح أحدهما عمل به، وهذا الحديث من أمثلته، وأبعد من قال إنما نفى أبو معبد التحديث ولا يلزم منه نفي الإخبار، وهو الذي وقع من عمرو ولا مخالفة، وترده الرواية التي فيها " فأنكره " ولو كان كما زعم لم يكن هناك إنكار، ولأن الفرق بين التحديث والإخبار إنما حدث بعد ذلك، وفي كتب الأصول حكاية الخلاف في هذه المسألة عن الحنفية. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ قَالَ أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ تَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ الشرح: قوله: (عن عبيد الله) هو ابن عمر العمري، وسمي هو مولي أبي بكر بن عبد الرحمن وهما مدنيان، وعبيد الله تابعي صغير، ولم أقف لسمي على رواية عن أحد من الصحابة فهو من رواية الكبير عن الصغير، وهما مدنيان وكذا أبو صالح. قوله: (جاء الفقراء) سمي منهم في رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة أبو ذر الغفاري أخرجه أبو داود وأخرجه جعفر الفرياني في كتاب الذكر له من حديث أبي ذر نفسه، وسمي منهم أبو الدرداء عند النسائي وغيره من طرق عنه، ولمسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أنهم قالوا: " يا رسول الله " فذكر الحديث، والظاهر أن أبا هريرة منهم. وفي رواية النسائي عن زيد بن ثابت قال " أمرنا أن نسبح " الحديث كما سيأتي لفظه، وهذا يمكن أن يقال فيه إن زيد بن ثابت كان منهم، ولا يعارضه قوله في رواية ابن عجلان عن سمي عند مسلم: " جاء فقراء المهاجرين " لكون زيد بن ثابت من الأنصار لاحتمال التغليب. قوله: (الدثور) بضم المهملة والمثلثة جمع دثر بفتح ثم سكون هو المال الكثير، و " من " في قوله " من الأموال " للبيان، ووقع عند الخطابي " ذهب أهل الدور من الأموال " وقال: كذا وقع الدور جمع دار والصواب الدثور. انتهى. وذكر صاحب المطالع عن رواية أبي زيد المروزي أيضا الدور. قوله: (بالدرجات العلى) بضم العين جمع العلياء وهي تأنيث الأعلى، ويحتمل أن تكون حسية، والمراد درجات الجنات، أو معنوية والمراد علو القدر عند الله. قوله: (والنعيم المقيم) وصفه بالإقامة إشارة إلى ضده وهو النعيم العاجل، فإنه قل ما يصفو، وإن صفا فهو بصدد الزوال. وفي رواية محمد بن أبي عائشة المذكورة " ذهب أصحاب الدثور بالأجور " وكذا لمسلم من حديث أبي ذر، زاد المصنف في الدعوات من رواية ورقاء عن سمي " قال كيف ذلك " ونحوه لمسلم من رواية ابن عجلان عن سمي. قوله: (ويصومون كما نصوم) زاد في حديث أبي الدرداء المذكور " ويذكرون كما نذكر " وللبزار من حديث ابن عمر " صدقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا". قوله: (ولهم فضل أموال) كذا للأكثر بالإضافة. وفي رواية الأصيلي " فضل الأموال " وللكشميهني " فضل من أموال". قوله: (يحجون بها) أي ولا نحج، يشكل عليه ما وقع في رواية جعفر الفريابي من حديث أبي الدرداء " ويحجون كما نحج " ونظيره ما وقع هنا " ويجاهدون " ووقع في الدعوات من رواية ورقاء عن سمي: " وجاهدوا كما جاهدنا " لكن الجواب عن هذا الثاني ظاهر وهو التفرقة بين الجهاد الماضي فهو الذي اشتركوا فيه وبين الجهاد المتوقع فهو الذي تقدر عليه أصحاب الأموال غالبا. ويمكن أن يقال مثله في الحج، ويحتمل أن يقرأ " يحجون بها " بضم أوله من الرباعي أي يعينون غيرهم على الحج بالمال. قوله: (ويتصدقون) عند مسلم من رواية ابن عجلان عن سمي " ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق". قوله: (فقال ألا أحدثكم بما إن أخذتم به) في رواية الأصيلي " بأمر إن أخذتم " وكذا للإسماعيلي، وسقط قوله " بما " من أكثر الروايات، وكذا قوله " به " وقد فسر الساقط في الرواية الأخرى. وفي رواية مسلم " أفلا أعلمكم شيئا " وفي رواية أبي داود " فقال يا أبا ذر ألا أعلمك كلمات تقولهن". قوله: (أدركتم من سبقكم) أي من أهل الأموال الذين امتازوا عليكم بالصدقة، والسبقية هنا يحتمل أن تكون معنوية وأن تكون حسية، قال الشيخ تقي الدين: والأول أقرب وسقط قوله " من سبقكم " من رواية الأصيلي. قوله: (وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم) بفتح النون وسكون التحتانية. وفي رواية كريمة وأبي الوقت ظهرانيه بالإفراد، وكذا للإسماعيلي. وعند مسلم من رواية ابن عجلان " ولا يكون أحد أفضل منكم " قيل ظاهره يخالف ما سبق لأن الإدراك ظاهره المساواة، وهذا ظاهره الأفضلية. وأجاب بعضهم بأن الإدراك لا يلزم منه المساواة فقد يدرك ثم يفوق، وعلى هذا فالتقرب بهذا الذكر راجح على التقرب بالمال. ويحتمل أن يقال: الضمير في كنتم للمجموع من السابق والمدرك، وكذا قوله " إلا من عمل مثل عملكم " أي من الفقراء فقال الذكر، أو من الأغنياء فتصدق، أو أن الخطاب للفقراء خاصة لكن يشاركهم الأغنياء في الخيرية المذكورة فيكون كل من الصنفين خيرا ممن لا يتقرب بذكر ولا صدقة، ويشهد له قوله في حديث ابن عمر عند البزار " أدركتم مثل فضلهم " ولمسلم في حديث أبي ذر " أو ليس قد جعل لكم ما تتصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة " الحديث. واستشكل تساوي فضل هذا الذكر بفضل التقرب بالمال مع شدة المشقة فيه، وأجاب الكرماني بأنه لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل حالة، واستدل لذلك بفضل كلمة الشهادة مع سهولتها على كثير من العبادات الشاقة. قوله: (وتسبحون وتحمدون وتكبرون) كذا وقع في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد وتأخير التكبير. وفي رواية ابن عجلان تقديم التكبير على التحميد خاصة، وفيه أيضا قول أبي صالح " يقول الله أكبر وسبحان الله والحمد لله " ومثله لأبي داود من حديث أم الحكم، وله من حديث أبي هريرة " تكبر وتحمد وتسبح " وكذا في حديث ابن عمر. وهذا الاختلاف دال على أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديث الباقيات الصالحات " لا يضرك بأيهن بدأت " لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح لأنه يتضمن نفي النقائض عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائض إثبات الكمال. ثم التكبير إذ لا يلزم من نفي النقائض وإثبات الكمال أن يكون صلى الله عليه وسلم هناك كبير آخر. ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك. قوله: (خلف كل صلاة) هذه الرواية مفسرة للرواية التي عند المصنف في الدعوات وهي قوله " دبر كل صلاة " ولجعفر الفريابي في حديث أبي ذر " أثر كل صلاة " وأما رواية " دبر " فهي بضمتين، قال الأزهري: دبر الأمر يعني بضمتين ودبره يعني بفتح ثم سكون: آخره. وادعى أبو عمرو الزاهد أنه لا يقال بالضم إلا للجارحة، ورد بمثل قولهم أعتق غلامه عن دبر، ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراع فإن كان يسيرا بحيث لا يعد معرضا أو كان ناسيا أو متشاغلا بما ورد أيضا بعد الصلاة كآيه الكرسي فلا يضر، وظاهر قوله " كل صلاة " يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة عند مسلم التقييد بالمكتوبة، وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا هل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلا بين المكتوبة والذكر أو لا؟ محل النظر، والله أعلم. قوله: (ثلاثا وثلاثين) يحتمل أن يكون المجموع للجميع فإذا وزع كان لكل واحد إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سهيل بن أبي صالح كما رواه مسلم من طريق روح بن القاسم عنه، لكن لم يتابع سهيل على ذلك، بل لم أر في شيء من طرق الحديث كلها التصريح بإحدى عشرة إلا في حديث ابن عمر عند البزار وإسناده ضعيف، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد، فعلى هذا ففيه تنازع أفعال في ظرف ومصدر والتقدير تسبحون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدون وتكبرون كذلك. قوله: (فاختلفنا بيننا) ظاهره أن أبا هريرة هو القائل، وكذا قوله " فرجعت إليه " وأن الذي رجع أبو هريرة إليه هو النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالخلاف في ذلك وقع بين الصحابة، لكن بين مسلم في رواية ابن عجلان عن سمي أن القائل " فاختلفنا " هو سمي، وأنه هو الذي رجع إلى أبي صالح، وأن الذي خالفه بعض أهله ولفظه " قال سمي: فحدثت بعض أهل هذا الحديث، قال: وهمت، فذكر كلامه. قال: فرجعت إلى أبي صالح " وعلى رواية مسلم اقتصر صاحب العمدة، لكن لم يوصل مسلم هذه الزيادة، فإنه أخرج الحديث عن قتيبة عن الليث عن ابن عجلان ثم قال: زاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث، فذكرها. والغير المذكور يحتمل أن يكون شعيب بن الليث أو سعيد بن أبي مريم، فقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه عن الربيع بن سليمان عن شعيب، وأخرجه الجوز في والبيهقي من طريق سعيد، وتبين بهذا أن في رواية عبيد الله بن عمر عن سمي في حديث الباب إدراجا، وقد روى ابن حبان هذا الحديث من طريق المعتمر بن سليمان بالإسناد المذكور فلم يذكر قوله " فاختلفنا الخ". قوله: (ونكبر أربعا وثلاثين) هو قول بعض أهل سمي كما تقدم التنبيه عليه من رواية مسلم، وقد تقدم احتمال كونه من كلام بعض الصحابة، وقد جاء مثله في حديث أبي الدرداء عند النسائي، وكذا عنده من حديث ابن عمر بسند قوي، ومثله لمسلم من حديث كعب بن عجرة، ونحوه لابن ماجه من حديث أبي ذر لكن شك بعض رواته في أنهن أربع وثلاثون، ويخالف ذلك ما في رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة عند أبي داود ففيه " ويختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ"، وكذا لمسلم في رواية عطاء بن يزيد عن أبي هريرة، ومثله لأبي داود في حديث أم الحكم، ولجعفر الفريابي في حديث أبي ذر، قال النووي: ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعا وثلاثين ويقول معها لا إله إلا الله وحده الخ. وقال غيره: بل يجمع بأن يختم مرة بزيادة تكبيرة ومرة بلا إله إلا الله على وفق ما وردت به الأحاديث. قوله: (حتى يكون منهن كلهن) بكسر اللام تأكيدا للضمير المجرور. قوله: (ثلاث وثلاثون) بالرفع وهو اسم كان. وفي رواية كريمة والأصيلي وأبي الوقت " ثلاثا وثلاثين " وتوجه بأن اسم كان محذوف والتقدير حتى بكون العدد منهن كلهن ثلاثا وثلاثين. وفي قوله " منهن كلهن " الاحتمال المتقدم: هل العدد للجميع أو المجموع. وفي رواية ابن عجلان ظاهرها أن العدد للجميع لكن يقول ذلك مجموعا، وهذا اختيار أبي صالح. لكن الرواية الثابتة عن غيره الإفراد، قال عياض: وهو أولى. ورجح بعضهم الجمع للإتيان فيه بواو العطف والذي يظهر أن كلا من الأمرين حسن، إلا أن الإفراد يتميز بأمر آخر وهو أن الذاكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة لذلك - سواء كان بأصابعه أو بغيرها - ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث. (تنبيهان) : الأول وقع في رواية ورقاء عن سمي عند المصنف في الدعوات في هذا الحديث " تسبحون عشرا وتحمدون عشرا وتكبرون عشرا، ولم أقف في شيء من طرق حديث أبي هريرة على من تابع ورقاء على ذلك لا عن سمي ولا عن غيره، ويحتمل أن يكون تأول ما تأول سهيل من التوزيع، ثم ألغى الكسر. ويعكر عليه أن السياق صريح في كونه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وجدت لرواية العشر شواهد: منها عن علي عند أحمد، وعن سعد بن أبي وقاص عند النسائي، وعن عبد الله بن عمرو عنده، وعن أبي داود والترمذي، وعن أم سلمة عند البزار، وعن أم مالك الأنصارية عند الطبراني. وجمع البغوي في " شرح السنة " بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة أولها عشرا عشرا ثم إحدى عشرة إحدى عشرة ثم ثلاثا وثلاثين ثلاثا وثلاثين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال. وقد جاء من حديث زيد بن ثابت وابن عمر " أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا كل ذكر منها خمسا وعشرين ويزيدوا فيها لا إله إلا الله خمسا وعشرين " ولفظ زيد بن ثابت " أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ونحمد ثلاثا وثلاثين ونكبر أربعا وثلاثين، فأتى رجل في منامه فقيل له: أمركم محمد أن تسبحوا - فذكره - قال: نعم قال: اجعلوها خمسا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل. فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: فافعلوه " أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان، ولفظ ابن عمر " رأى رجل من الأنصار فيما يرى النائم - فذكر نحوه وفيه - فقيل له سبح خمسا وعشرين واحمد خمسا وعشرين وكبر خمسا وعشرين وهلل خمسا وعشرين فتلك مائة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلوا كما قال " أخرجه النسائي وجعفر الفريابي. واستنبط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة وإلا لكان يمكن أن يقال لهم: أضيفوا لها التهليل ثلاثا وثلاثين. وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالذكر عقب الصلوات إذا رتب عليها ثواب مخصوص فزاد الآتي بها على العدد المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة ذلك العدد، قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: وفيه نظر، لأنه أتى بالمقدار الذي رتب الثواب على الإتيان به فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه كيف تكون الزيادة مزيلة لذلك الثواب بعد حصوله؟ ا ه. ويمكن أن يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد ثم أتى بالزيادة فالأمر كما قال شيخنا لا محالة، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب على عشرة مثلا فرتبه هو على مائة فيتجه القول الماضي. وقد بالغ القرافي في القواعد فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحدودة شرعا، لأن شأن العظماء إذا حدوا شيئا أن يوقف عنده ويعد الخارج عنه مسيئا للأدب ا ه. وقد مثله بعض العلماء بالدواء يكون مثلا فيه أوقية سكر فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع. ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة تفوت بفواتها، والله أعلم. (التنبيه الثاني) : زاد مسلم في رواية ابن عجلان عن سمي " قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلناه ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ثم ساقه مسلم من رواية روح بن القاسم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة فذكر طرفا منه ثم قال بمثل حديث قتيبة، قال: إلا أنه أدرج في حديث أبي هريرة قول أبي صالح: فرجع فقراء المهاجرين. قلت: وكذا رواه أبو معاوية عن سهيل مدرجا أخرجه جعفر الفريابي، وتبين بهذا أن الزيادة المذكورة مرسلة، وقد روى الحديث البزار من حديث ابن عمر وفيه " فرجع الفقراء " فذكره موصولا لكن قد قدمت أن إسناده ضعيف. ورواه جعفر الفريابي من رواية حرام بن حكيم وهو بحاء وراء مهملتين عن أبي ذر وقال فيه " فقال أبو ذر: يا رسول الله إنهم قد قالوا مثل ما نقول. فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ونقل الخطيب أن حرام بن حكيم يرسل الرواية عن أبي ذر، فعلى هذا لم يصح بهذه الزيادة إسناد، إلا أن هذين الطريقين يقوي بهما مرسل أبي صالح. قال ابن بطال عن المهلب: في هذا الحديث فضل الغني نصا لا تأويلا، إذا استوت أعمال الغني والفقير فيما افترض الله عليهما، فللغني حينئذ فضل عمل البر من الصدقة ونحوها مما لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أن هذا الفضل يخص الفقراء دون غيرهم، أي الفضل المترتب على الذكر المذكور، وغفل عن قوله في نفس الحديث " إلا من صنع مثل ما صنعتم " فجعل الفضل لقائله كائنا من كان. وقال القرطبي: تأول بعضهم قوله " ذلك فضل الله يؤتيه " بأن قال: الإشارة راجعة إلى الثواب المترتب على العمل الذي يحصل به التفضيل عند الله، فكأنه قال: ذاك الثواب الذي أخبرتكم به لا يستحقه أحد بحسب الذكر ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل الله. قال: وهذا التأويل فيه بعد، ولكن اضطره إليه ما يعارضه. وتعقب بأن الجمع بينه وبين ما يعارضه ممكن من غير احتياج إلى التعسف. وقال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث القريب من النص أنه فضل الغني، وبعض الناس تأوله بتأويل مستكره كأنه يشير إلى ما تقدم. قال: والذي يقتضيه النظر أنهما إن تساويا وفضلت العبادة المالية أنه يكون الغني أفضل، وهذا لا شك فيه، وإنما النظر إذا تساويا وانفرد كل منهما بمصلحة ما هو فيه أيهما أفضل؟ إن فسر الفضل بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة فيترجح الغني، وإن فسر بالإشراف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي يحصل لها من التطهير بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقر، ومن ثم ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر. وقال القرطبي: للعلماء في هذه المسألة خمسة أقوال، ثالثها الأفضل الكفاف، رابعها يختلف باختلاف الأشخاص، خامسها التوقف. وقال الكرماني: قضية الحديث أن شكوى الفقر تبقى بحالها. وأجاب بأن مقصودهم كان تحصيل الدرجات العلا والنعيم المقيم لهم أيضا لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقا ا ه. والذي يظهر أن مقصودهم إنما كان طلب المساواة. ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن متمني الشيء يكون شريكا لفاعله في الأجر كما سبق في كتاب العلم في الكلام على حديث ابن مسعود الذي أوله " لا حسد إلا في اثنتين " فإن في رواية الترمذي من وجه آخر التصريح بأن المنفق والمتمني إذا كان صادق النية في الأجر سواء، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء " فإن الفقراء في هذه القصة كانوا السبب في تعلم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في قوله امتاز الفقراء بأجر السبب مضافا إلى التمني، فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شظف العيش وشكر الغني على التنعم بالمال، ومن ثم وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر، وسيكون لنا عودة إلى ذلك في الكلام على حديث " الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر " في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس، الفاضل لئلا يقع الخلاف، كذا قال ابن بطال، وكأنه أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله " ألا أدلكم على أمر تساوونهم فيه " وعدل عن قوله نعم هم أفضل منكم بذلك. وفيه التوسعة في الغبطة، وقد تقدم تفسيرها في كتاب العلم، والفرق بينها وبين الحسد المذموم. وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهم، ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم فيؤخذ منه أن قوله " إلا من عمل " عام للفقراء والأغنياء خلافا لمن أوله بغير ذلك. وفيه أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق. وفيه فضل الذكر عقب الصلوات، واستدل به البخاري على فضل الدعاء عقيب الصلاة كما سيأتي في الدعوات لأنه في معناها، ولأنها أوقات فاضلة يرتجى فيها إجابة الدعاء. وفيه أن العمل القاصر قد يساوي المتعدي خلافا لمن قال إن المتعدي أفضل مطلقا، نبه على ذلك الشيخ عز الدين بن عبد السلام. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ أَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهَذَا وَعَنْ الْحَكَمِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ عَنْ وَرَّادٍ بِهَذَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْجَدُّ غِنًى الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو الثوري، ورجال الإسناد كلهم كوفيون إلا محمد بن يوسف وهو الفريابي. قوله: (عن وراد) في رواية معتمر بن سليمان عن سفيان عند الإسماعيلي " حدثني وراد". قوله: (أملى علي المغيرة) أي ابن شعبة (في كتاب إلى معاوية) كان المغيرة إذ ذاك أميرا على الكوفة من قبل معاوية وسيأتي في الدعوات من وجه آخر عن وراد بيان السبب في ذلك، وهو أن معاوية كتب إليه: اكتب لي بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي القدر من رواية عبدة بن أبي لبابة عن وراد قال " كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلى ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة". قد قيدها في رواية الباب بالمكتوبة فكأن المغيرة فهم ذلك من قرينة في السؤال واستدل به على العمل بالمكاتبة وإجرائها مجرى والسماع في الرواية ولو لم تقترن بالإجازة. وعلى الاعتماد على خبر الشخص الواحد. وسيأتي في القدر في آخره أن ورادا قال " ثم وفدت بعد علي معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك " وزعم بعضهم أن معاوية كان قد سمع الحديث المذكور، وإنما أراد استثبات المغيرة واحتج بما في الموطأ من وجه آخر عن معاوية أنه كان يقول على المنبر " أيها الناس، إنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، ولا ينفع ذا الجد منه الجد. من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ثم يقول: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد". قوله: (له لملك وله الحمد) زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة " يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير - إلى - قدير " ورواته موثقون. وثبت مثله عند البزار من حديث عبد الرحمن ابن عوف بسند ضعيف، لكن في القول إذا أصبح وإذا أمسى. قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) قال الخطابي: الجد الغني ويقال الحظ، قال: و " من " في قوله " منك " بمعنى البدل، قال الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على الطهيان يريد ليت لنا بدل ماء زمزم ا ه. وفي الصحاح: معنى " منك " هنا عندك، أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح. وقال ابن التين: الصحيح عندي أنها ليست بمعنى البدل ولا عند، بل هو كما تقول: ولا ينفعك مني شيء إن أنا أردتك بسوء. ولم يظهر من كلامه معنى، ومقتضاه أنها بمعنى عند أو فيه حذف تقديره من قضائي أو سطوتي أو عذابي. واختار الشيخ جمال الدين في المغني الأول، قال ابن دقيق العيد: قوله منك يجب أن يتعلق بينفع، وينبغي أن يكون ينفع قد ضمن معنى يمنع وما قاربه، ولا يجوز أن يتعلق منك بالجد كما يقال حظي منك كثير لأن ذلك نافع ا ه. والجد مضبوط في جميع الروايات بفتح الجيم ومعناه الغني كما نقله المصنف عن الحسن، أو الحظ. وحكى الراغب أن المراد به هنا أبو الأب، أي لا ينفع أحدا نسبه. قال القرطبي: حكى عن أبي عمرو الشيباني أنه رواه بالكسر وقال: معناه لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده. وأنكره الطبري. وقال القزاز في توجيه إنكاره: الاجتهاد في العمل نافع لأن الله قد دعا الخلق إلى ذلك، فكيف لا ينفع عنده؟ قال: فيحتمل أن يكون المراد أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع أمر الآخرة. وقال غيره: لعل المراد أنه لا ينفع بمجرده ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، كما تقدم في شرح قوله " لا يدخل أحدا منكم الجنة عمله " وقيل المراد على رواية الكسر السعي التام في الحرص أو الإسراع في الهرب. قال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان، والمعنى لا ينجيه حظه منك، وإنما ينجيه فضلك ورحمتك. وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقب الصلوات لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله والمنع والإعطاء وتمام القدرة، وفيه المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها. (فائدة) : اشتهر على الألسنة في الذكر المذكور زيادة " ولا راد لما قضيت " وهي في مسند عبد ابن حميد من رواية معمر عن عبد الملك بن عمير بهذا الإسناد، لكن حذف قوله " ولا معطي لما منعت " ووقع عند الطبراني تاما من وجه آخر كما سنذكره في كتاب القدر إن شاء الله تعالى. ووقع عند أحمد والنسائي وابن خزيمة من طريق هشيم عن عبد الملك بالإسناد المذكور أنه كان يقول الذكر المذكور أو لا ثلاث مرات. قوله: (وقال شعبة عن عبد الملك بن عمير بهذا) وصله السراج في مسنده، والطبراني في الدعاء، وابن حبان من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة ولفظه عن عبد الملك بن عمير " سمعت ورادا كاتب المغيرة بن شعبة أن المغيرة كتب إلى معاوية " فذكره. وفي قوله " كتب " تجوز لما تبين من رواية سفيان وغيره أن الكاتب هو وراد، لكنه كتب بأمر المغيرة وإملائه عليه. وعند مسلم من رواية عبدة عن وراد قال " كتب المغيرة إلى معاوية، كتب ذلك الكتاب له وراد " فجمع بين الحقيقة والمجاز. قوله: (وقال الحسن جد غني) الأولى في قراءة هذا الحرف أن يقرأ بالرفع بغير تنوين على الحكاية، ويظهر ذلك من لفظ الحسن، فقد وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي رجاء وعبد بن حميد من طريق سليمان التيمي كلاهما عن الحسن في قوله تعالى وعادة البخاري إذا وقع في الحديث لفظة غريبة وقع مثلها في القرآن يحكي قول أهل التفسير فيها وهذا منها. ووقع في رواية كريمة " قال الحسن الجد غني " وسقط هذا الأثر من أكثر الروايات. قوله: (وعن الحكم) هكذا وقع في رواية أبي ذر التعليق عن الحكم مؤخرا عن أثر الحسن. وفي رواية كريمة بالعكس وهو الأصوب، لأن قوله وعن الحكم معطوف على قوله عن عبد الملك، فهو من رواية شعبة عن الحكم أيضا، وكذلك أخرجه السراج والطبراني وابن حبان بالإسناد المذكور إلى شعبة ولفظه كلفظ عبد الملك إلا أنه قال فيه " كان إذا قضى صلاته وسلم قال " فذكره، ووقع نحو هذا التصريح لمسلم من طريق المسيب بن رافع عن وراد به.
|